العدو الضروري والحسم الدائم: الصهيونية كحركة تمدد

الأحد 27 آب 2023
جيش الاحتلال الإسرائيلي في حوارة. تصوير أحمد الغربلي. أ ف ب.

عند التأمل في وضع المجتمع الصهيوني اليوم، لا يمكن النظر إلى القوى الأيديولوجية الدينية واليمينية على أنها طارئة عليه أو نتاج طفرة خارجة عنه، فهي تمثل إحدى مشاربه التاريخية وضروراته كحركة استعمارية توسعية لا تكتفي بحدود جغرافية محددة. أي أن هذه الحركة لا يمكن أن تجلس مكتفية على شاطئ فلسطين المسلوب. وقد قدم بهذا الصدد وزير المالية الإسرائيلي بتسلائل سموتريتش، المنتمي إلى حركة تكوما التابعة للتيار الديني-القومي في الحركة الصهيونية، خطة أطلق عليها خطة الحسم، يحاول فيها رسم منظوره لمعنى الحسم.

لكن، في قلب الأزمة الدائرة داخل دولة الاحتلال أيضًا يدور صراع على العلاقة بين أطراف الدولة ومركزها، أو بالأحرى، صراع حول موقع هذا المركز بالضبط. ففي مقابل القوى الأيديولوجية الدينية واليمينية هناك التيار العلماني اليساري الذي يعتبر أن مركز حياته واستقراره يتمحور في قلب ما يُسمى «دولة تل أبيب الكبرى»، وأن المستوطنات في التلال هي مجرد جزء من الجهود الأمنية لحماية تلك الدولة على الساحل. وهذا يعني وجود قلاع متناثرة على التلال تقوم بدور في حماية المجال الجوي والفضائي لمركز الدولة. ووفقًا لهذه النظرة يصبح المستوطن في الضفة، بالنسبة لنظيره في تل أبيب، جزءًا وظيفيًا من منظومة حماية فضاء تل أبيب الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، والاستيلاء على أكبر قدر ممكن من الموارد الاقتصادية. بتعبير آخر، يلعب الوجهُ الدينيّ والأصوليّ القبيح دورًا وظيفيًا في حماية الوجه الليبرالي العلماني المُجمّل.

وهناك تيار «مستوطن الضفة الغربية»، الذي يرى أن مركز المشروع الصهيوني يكون تحديدًا في رفض المركز المستقرّ غير المتغير؛ أي أن مركز المشروع الاستيطاني يكمن على تخوم المستوطنة في حوارة والأغوار وجبل صبيح، وفي حلم العودة إلى مستوطنات سيناء وغزة وجنين، وأيضًا في حلم التمدد نحو الأردن أو أبعد من ذلك.

يمكن القول إذن إن في قلب المسألة فانتازيا حالمة ترافق المجموعات الاستيطانية الفاعلة على اختلاف مشاربها، بأن تكون حركتها وتوسعها في الفضاء حرة ومطلقة ودون عقبات. وفي سعي المجموعات الاستيطانية أيضًا هروب من التناقضات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تفرض أنماطًا من الاستقرار على صبغة الدولة ككل وصبغة مجتمعها، أي تلك التيارات الأخرى التي تريد القليل من الركود والاسترخاء.

في كتابه «ديمومة المسألة الفلسطينية»، يشير جوزيف مسعد إلى الحلم الصهيوني الذي رسمه هرتزل، والذي يتمثل في رغبته تحويل اليهودي الذي يعيش في أوروبا والذي يُنظَر إليه بوصفه «اليهودي الآسيوي»، أي اليهودي غير المرغوب فيه من الأوروبيين البيض، إلى الأوروبي الذي يعيش على حافة آسيا، ما يجعل منهم هؤلاء امتدادًا ثقافيًا وحضاريًا لأوروبا في الشرق.

في مرحلة تاريخية معينة، أعلنت الحركة الصهيونية أنها تمثل «فيلّا» محاطة ببحر من «البرابرة»، وكأنها جزء صغير من أوروبا وسط عالم عربي يعتبرونه متخلفًا. في هذا التصور، تبدو الفيلا مستقرة وغير متحركة، تدافع عن نفسها وعن موقعها. حتى عندما تقوم بالاحتلال، كما في الجولان وسيناء، فإنها تبرر ذلك بالحاجة أو الاستعداد لتبادل الأراضي من أجل السلام. بينما ترى الحركة النشطة داخل دولة الاحتلال في التوسع أساسًا لبقاء الدولة، وتُحوّل الأراضي التي تحتلها إلى أملاك يهودية. وبالتالي، الرغبة هنا ليست فقط في الاحتفاظ بالفيلا، ولكن في إمكانية بناء فيلا أخرى في المستقبل، إذ إن هناك دومًا فيلا مؤجلة لم تُبنَ بعد.

وفي هذا الصدد، لم تكن للحركة الصهيونية حدود أبدًا. فالحدود التي نشأت كانت نتيجة للمعركة على فلسطين وتعبيرًا عن قوة «إسرائيل» العسكرية والديموغرافية والاقتصادية، بما في ذلك حاجتها للموارد الاقتصادية الهامة مثل المياه والأرض، وكل ذلك في سياق مقاومة أهل البلاد السياسية والعسكرية والثقافية لهذا التوغل. كل حدٍّ في نهاية الأمر مؤقت، ولكن في حالة دولة الاحتلال فالحدود مؤقتة حتمًا، ويمكن لها ببساطة أن تمتد حيثما توجد فرصة لامتدادها. لهذا، لا يمكن تخيل دولة تعيش بسلام كامل مع جيرانها، حتى لو أراد الفلسطينيون التخلي عن فلسطين وعن هويتهم الوطنية، سنجد حركات استيطانية نشطة تبزغ من مشارب فكرية متعددة تحاول إيجاد منفذ جديد للتوسع. المركز في هذا المشروع سيبقى دومًا على الحد، وبعد كل «حسم» مزعوم، سنجده بحاجة لحسم جديد.

وأكثر ما يُجسد هذا الصراع بين هذين الرؤيتين هو الجدار الفاصل الذي يلعب دورًا في الحد من حرية حركة الفلسطيني في بلاده، ولكنه يرمز كذلك للانفصال النفسي بين عمق المستوطنة وأطرافها، بين دولة تل أبيب ومنظومة حمايتها، بين التخوم والعمق. وكأنما أتى الجدار ليفصل هذين التصورين عن بعضهما مشكّلًا مجازًا لهذا البعد السياسي بين الأطراف والمركز. لهذا نجد أن قتال اليمين في غالبيته يدور حول أهمية حسم الصراع في فلسطين، كل فلسطين، بما فيها النقب والجليل واللد ويافا والمثلث والضفة وحتى في غزة، ولكنه أيضًا يدور في فلك أن أيّ حسم لا يمكن له أن يتبلور دون أن تعمق دولة اليهود علاقتها مع الدين اليهودي.

تجربة الاستيطان: الهروب من الرتابة

يمكن القول إن الاستعمار، بشكل عام، محاولة لبناء المعنى الأصيل المرتبط بأبجديات القوة والسيطرة. وفي قلب تجربة الاستيطان يكمن إدمان البحث عن المعنى وإمكانية الهروب من رتابة ضيق القوانين والحياة الاقتصادية المرتبطة بالاستهلاك والوظيفة. وبكلمات أخرى، يمكّن الاستيطان المستوطنين من الخروج من رتابة وظائفهم في المكاتب المملة، والذهاب نحو التلة القريبة وحمل السلاح والتجول وضرب وإحراق وقتل العرب.

ويظهر هذا السعي للتخلص من الرتابة من خلال التحركات والتوسع الأفقي، وسعي شباب التلال للتجوال على القمم والاقتراب من الماشية والخيم البدوية والبلدات الفلسطينية، واحتلال مواقع ونقاط جغرافية جديدة. هناك، أيضًا، نوع من الهروب من اقتصاد رأسمالي وحداثة علمانية تُظهر المجتمع الصهيوني كمجموعة من الأفراد المرهقين بالعمل، ومن الملل الناجم عن الروتين اليومي.

لم أكن مقتنعًا ابدًا أن البعد الديني لهذه الحركات هو الأهم، خاصة فيما يتعلق بمحركات الاستعمار والتوسع. بمعنى أن حمل السلاح والقتل وإحقاق سيادة المستعمر وتدمير سيادة الفلسطيني هو الطريقة لتحصيل تجربة دينية إيمانية، وليس العكس. ليس الدين والتوراة ما يحرّك المستوطن، بل هذه التجربة الشعورية التي تحرره من سياط اقتصادات الاستهلاك والوظيفة والحياة المملة. وكأنما الاستعمار أيضًا عارض من عوارض التناقضات الاقتصادية والاجتماعية التي تدفع المستوطن لبناء معجم سيطرة وتحكم يستند إلى لغة القوة العارية. وقد التقط الفلسطيني هذا البُعد من التجربة الاستيطانية وأطلق على ممارسات المستوطنين مفهوم «العربدة». ففي العربدة أذية غير منطقية، أو أذية مفتعلة هدفها الأذية نفسها. وكأنما المتعة تكمن أساسًا في قدرة المستوطن على الايذاء، وفي انتشائه لحظة فعله. وبهذا المعنى، تأتي اللغة الرمزية الدينية أو السياسية أو الأمنية فقط لتقدم الإيذاء ضمن منطق رمزي أو ثقافي أو سياسي.

يمكّن الاستيطان المستوطنين من الخروج من رتابة وظائفهم في المكاتب المملة، والذهاب نحو التلة القريبة وحمل السلاح والتجول وضرب وإحراق وقتل العرب.

في العديد من الأفلام والروايات التي تناولت التجربة الشعورية للمستوطن ظهر تقاطع مع هذه الثيمة، مثل رواية «قلب الظلام» للروائي البولندي جوزيف كونراد، أو فيلم فيرنر هيرزوغ «أغوير، غضب الله». هناك دوما شخصيات رئيسة تجذبها وتُغريها تلك التجربة الحسية والشعورية بأن تكون السيد وتحظى بالقوة، تسحرها رحلات البحث عن الذهب، والقوة، وتوغلها في عمق المستعمرات في أفريقيا أو جنوب أمريكا باحثة عن «الحسم» والخلاص. وفي كل من تلك القصص وشخصياتها هناك انحطاط مستمر، وفقدان للأخلاق، وهوس في البحث عن «المدينة الفاضلة» أو الخلاص الديني. الإشكال الكبير أن المستعمر لا يجده ابدًا، وبالتالي تبدو المدينة الفاضلة أو تظهر دومًا مشروعًا مؤجلًا.

الخطير في الأمر أن في صلب المسألة رغبة دائمة في لقاء الفلسطيني وتدميره، رغبة دائمة في الحرب، وكأنما السلام لا يمكن أن يكون إلا ضمن مفهوم أقرب إلى الحرب الدائمة. هذه حلبة مصارعة لا تنتهي فيها الجولات، وحتى عندما يقضي عليك الخصم سيستمر بتسديد اللكمات.

بهذا المعنى، يُمكن القول إن روح هذه الحركة تكمن في كونها على التخوم، تسعى دائمًا لاختراق حدّ جديد. إذا كانت كتابات جابوتنسكي تتحدث عن جدار حديدي ثابت يمثل القوة العسكرية، فإن الحركة الصهيونية الدينية ترى أن هذا الجدار عليه أن يكون متحركًا.

ورغم أن الدولة الإسرائيلية ومحاكمها وأنظمتها تدعم الاستيطان وتعززه، ورغم أن المحاكم الإسرائيلية قوّننت عمليات التوسع، بما فيها مصادرة الأراضي وهدم البيوت، إلا أن هذه الحركات التي يُمثلها سموترتيش تسعى لكسر روتين القوانين والمحاكم. فهي تستمتع بحرق الزيتون، وقتل الأطفال، والرقص علي صور قتلاها. وبالتأكيد لا تقبل بالإيقاع القانوني البطيء الذي يطالب المستوطن أن يقف أمام قاضٍ ليبرر سيادته وقوته وشعوره المتضخم بالقوة.

في القراءة الهيجلية المتعلقة بجدلية السيد والعبد، يظهر تناقض يكمن في موقع السيد؛ حيث يعتمد السيد في النهاية على العبد لتأكيد هويته كسيد. وما يميز السيد ويعطيه تلك الصفة هو وجود واعتراف العبد. الإشكالية تظهر عندما نلاحظ أن الإدمان على المواجهة، كما هو الحال في تيارات التي تقودها شخصيات مثل سموترتيش وبن غفير، يتجلى في الرغبة في التخلص التام من العبد، أي القضاء عليه وإخراجه من المشهد العام. وتتجسد الأزمة في السؤال: كيف يكون الإنسان سيدًا دون وجود عبيد؟ الحل الذي يقترحه سموتريتش هو في استمرار الحركة والتوسع في الفضاء. لهذا يطرح علينا خطط الحسم ولكن مع خرائط تضم الأردن كسعي سياسي. قد يعترض ويقول أحدهم، إن الأردن تمثل ما يمكن التنازل عنه لدى هذه الحركات، ولكن الحقيقة أن أي تنازل هو مؤقت، وأن ممتلك القوة الباحث عن المدن الفاضلة سيستمر في عمليات البحث عنها ولو بعد حين.

بينما يقبل الصهيوني الليبرالي بوجود شراكة يسمح فيها للفلسطيني (كعبد في هذا السياق) بأن يعبر عن رأيه، ويطالب ببعض الحقوق، حتى لو كان ذلك داخل قبة الكنيست، يسعى البعض الآخر لـ«تطهير» المشهد من وجود العبد ومن ثم البحث عن عدو جديد لاستعباده. هذه الحركات الدينية تسعى لنقاء مطلق دون وجود للآخر، حتى داخل قبة الكنيست. التواصل مع الآخر بالنسبة لها هو على تخوم الحد، وعندما تغادر منطقة، تنتقل إلى أخرى في حركة عليها أن تستمر. لذلك، ليس من الغريب مثلًا أن نرى سموترتيش وهو يلقي خطبة أمام لافتة ترمز لـ«إسرائيل» التي امتدت لتشمل الأردن. ولهذا لا يمكن بالحقيقة أن نفهم خطة الحسم على أنها حسم دائم، أي خطة لأجل الوصول إلى حالة سلام وتصالح دائمين، بل هي في لبّها حالة من الحسم المؤقت في جغرافيا محددة، تحتاج ما يتبعها.

لا جديد سوى القديم

يمكن القول إنه في كل حقبة تاريخية كان هناك نمطان من الصهيونية: النمط البراغماتي المرن الذي يرى نفسه امتدادًا للغرب ويحاول استنهاض تحالفات وبناء علاقات دولية تضمن وجوده. وهذا النمط كان يستثمر في بناء أنظمة تساهم في بناء ما يمكن الإفصاح عنه بالعلن، وما عليه أن يبقى في السر وطي الكتمان. فهو يرى في المجازر والتهجير خطيئة ضرورية، ولكنها خطيئة يجب أن تبقى في عوالم السر.

وعلى الدوام، كان هناك نمط آخر من الصهيونية، وهي الصهيونية التي تمثل اللاوعي الصهيوني الكلي، فتعبر عما يضمره الآخرون، وتروج للغة الحرب والعداء والحسم كأساس لإمكانية نشوء دولة استعمارية في قلب العالم العربي واستمراريتها. هي صهيونية تعتنق هذا التطرف دون تردد، معلنة بوضوح أن العداء للعرب يستدعي التهجير والقتل والمجازر والحرق والقوة العسكرية التي تزرع في وعي العربي عدم إمكانية الانتصار على الصهيونية. هذه الصهيونية تسعى دائمًا إلى تشييد انتصار يخرج العربي من أحلامه السياسية، ويفرض عليه التعامل مع نفسه إما كفرد أو كطائفة أو من خلال هويات طارئة وفارغة، أي هويات لا تشكل خطرًا على الصهيونية واستمراريتها في البلاد. الأول يروج للردع، والثاني للحسم.

في صلب المسألة رغبة دائمة في لقاء الفلسطيني وتدميره، رغبة دائمة في الحرب، وكأنما السلام لا يمكن أن يكون إلا ضمن مفهوم أقرب إلى الحرب الدائمة. هذه حلبة مصارعة لا تنتهي فيها الجولات، وحتى عندما يقضي عليك الخصم سيستمر بتسديد اللكمات.

لا يمكن هنا تجاهل كتابات مؤسس الحركة الصهيونية الإصلاحية، زئيف جابوتنسكي، المرتبط بحزب الليكود. ففي أعماله نجد تصويرًا صادقًا لاستراتيجية الحرب والسلام كمفهوميْن متلازميْن، يتضح من خلال صياغته محاولة وضع شروط للسلام مع العرب. ويتضمن نص جابوتنسكي «الجدار الحديدي» الاعتراف بالوجود العربي والعلاقة بين العرب الفلسطينيين والأرض، ومع ذلك، يُظهِر بوضوح أن شرط السلام، في نظره، هو بناء قوة عسكرية لا يمكن اختراقها؛ جدار حديدي يدفع العرب إلى التخلي عن أحلامهم السياسية.

وفقًا لتفكير جابوتنسكي، لا يمكن تحقيق السلام إلا بعد أن يقبل العرب بواقع وجود الدولة الصهيونية ويُسلّموا بأن وجودها حقيقة لا مفر منها. في هذا السياق، قدم جابوتنسكي فكرة السلام كنوع من أنواع الهزيمة للعرب، هزيمة تدفعهم نحو القبول بوجود دولة «إسرائيل» والتسوية معها. وفي المقابل، عرض مفهوم الحرب والقوة العسكرية كأدوات ضرورية للوصول إلى هذا السلام.

يُظهر سموتريتش موقفًا يتفق، إلى حدٍ ما، مع مفهوم جابوتنسكي حول السلام والقوة. فسموتريتش لا يرى أن أساس المقاومة الفلسطينية يكمن في الحرمان أو البؤس. بل على العكس، يعتقد أن هذه المقاومة قائمة على الأمل، وبالتحديد الأمل في القضاء على وجود دولة «إسرائيل». وفي هذا السياق، يُقدم ما يُطلق عليه «خطة الحسم» كاستراتيجية لإنهاء الصراع، تقوم فكرة «الحسم» على الاعتقاد بأن إزالة هذا الأمل هو المفتاح لإنهاء المقاومة.

ما يلفت الانتباه هو الاختلاف بين رؤية اليمين واليسار الصهيونيين حول أسباب انبثاق المقاومة الفلسطينية. فاليمين يُركز على فكرة الأمل كدافع للمقاومة، بينما يعتبر اليسار أن الحرمان الاقتصادي والاجتماعي هو المحرك الرئيسي. وفي بعض الأحيان، يرى المقاومة نتيجة لثقافة معارِضة لقيم الحداثة والليبرالية. ورغم هذا الاختلاف، يمكن القول إن هناك تقاربًا في وجهات النظر. فهناك من يرى أن الحل يكمن في دمج الفلسطينيين في النسيج الاقتصادي للدولة، سواء كانوا عمالًا أو مهنيين، معتبرين أن التطور الاقتصادي قد يسهم في التخفيف من حدة العداء. وهناك من يعتقد أن استعراض القوة العسكرية وتعزيز الردع هو السبيل الأمثل لضمان أمن الدولة.

أما بالنسبة لسموتريتش، فتبدو الأمور مختلفة قليلًا، حيث لا يرغب في دمج الفلسطينيين والعرب أو فصلهم، ولكنه يريد منهم تحديد موقفهم بشكل يتجاوز القيادات السياسية الفلسطينية أو ممثليهم. أي أنه يطالب بموقف عربي يتمثل إمّا في قبول العيش كعبد في البلاد، أو المقاومة حتى الموت، أو الخروج القسري من البلاد. وهي الخيارات الثلاث التي يمنحها لنا.

العدو الضروري والسلام غير الممكن

لا تقتصر الإشكاليات الكبرى في بنية الحركة الصهيونية على حاجتها للعداء كآلية لبناء مجتمع متجانس، أو مجتمع يمتلك عناصر لتشكيل وإعادة تشكيل وحدته السياسية استنادًا إلى الآخر المكروه، فكثيرًا ما تنشأ خلافات حول تحديد العدو من الصديق، وقد تظهر نزاعات سياسية تُمزق التوافق داخل المجتمع الصهيوني بشأن طبيعة العدو. كما لا يقتصر شكل ونوع الوجود الصهيوني على الخوف والقلق الوجودي، والخوف من الاندثار في الفضاء العربي الأوسع هو خوفٌ مُنتِج يُسهم في البحث المستمر عن سبل البقاء والحفاظ على مكانة السيد. بكلمات أخرى لا نريد هنا أن نختزل الصهيونية في موقف واحد. وإن كانت إحدى محركاتها الأساسية، محركات تتجاوز الأبعاد الفكرية للتيارات المختلفة، وتبحث دومًا عن سبل الحركة الأفقية في الفضاء، والتمدد، والتوغل إلى أراضٍ جديدة.

وهذا بالتحديد ما يقوم به نص جابوتنسكي «الجدار الحديدي»، فهو يفكك من جهة أساطير اليسار حول إمكانية التوافق مع العرب والوصول إلى حل مرضٍ لجميع الأطراف، من خلال تفكيك صورة العربي الضعيف القابل للشراء والذي لا يملك رابطة حقيقة وأصيلة مع الأرض. على العكس تمامًا، يقدم جابوتنسكي العربي بصورة الإنسان المعتد بنفسه والذي يملك سرديته وروابطه الحقيقية، العربي المستعد للقتال لتجنب خسارة البلاد. في لب نظرة جابوتنسكي واقعية تسعى لتجاوز «سذاجة» اليسار في حينها، أي خطاب عقلاني يسعى لتعرية الصراع مع العربي من «أحلام» وتشويهات اليسار الإسرائيلي المهمين في حينها. طبعا الساذج هنا هو جابوتنسكي، لأن اليسار فقط لم يرد البوح بما قاله جابوتنسكي علنًا.

الحاجة ستبقى قائمة لعدو جديد وخطر جديد وأرض جديدة، ويمكن للصهيونية مرة أخرى تأكيد الأسس الأخلاقية لسرقتها التاريخية للأرض، لأنها في النهاية تحتاج إلى عدو يمنحها اعترافًا جديدًا بانتصارها وأحقيتها.

لوهلة نجد في جابوتنسكي قدرة على «التعاطف الاستراتيجي» مع العربي، فهو يتهم منافسيه في التيارات السياسية الأخرى بالسذاجة، لأن العربي لا يعقل له أن يقبل بحلول تتضمن وجود الصهيوني على قاعدة المساواة أو الحكم الذاتي أو غيرها من أشكال العيش المشترك وأنماطها. ويضع نفسه في موقع العربي، ومن ثم يخط ضرورة القوة العسكرية. وهنا تكمن أهمية الصورة التي يطرحها جابوتنسكي؛ أن تعريف العربي كعدو ينبع من الضرورة، والضرورة نفسها تحيل لضرورة الحرب الاستباقية.

بطبيعة الحال تقدم خطة وزير المالية سموترتيش نظرة شبيهة ولكنها تتجاوز جابوتنسكي قليلًا، فهي تمتلك أيضا الحقيقة الربانية بشرعية القضاء على العربي والفلسطيني. يُحاجج جابوتنسكي بشكل دائري ليقول، «إن الحركة الصهيونية أخلاقية لأننا أمنّا بها» ولو كانت غير أخلاقية لما أصبحنا «صهيونيين». بمعنى هي أخلاقية لأننا أخلاقيون، ولأننا أخلاقيون لا يمكن أن ننتمي لحركة غير أخلاقية. أما سموترتيش فيأتي ليقول، نحن أخلاقيون لان الرب منحنا الأرض، ومنحنا حق الحركة الأفقية فيها؛ حق ابتلاعها وحق بناء وتشييد أعمدة الخلاص النهائي فيها.

وإن كان الرب أو مركزية الانتماء أساسات في بناء الوازع الأخلاقي لضرورة الحركة الصهيونية، فهما يشيران إلى أنه، وفي الحالتين، سيبقى هناك بحث دائم عن الحسم الجديد. بمعنى أن الحاجة ستبقى قائمة لعدو جديد وخطر جديد وأرض جديدة، ويمكن للصهيونية مرة أخرى تأكيد الأسس الأخلاقية لسرقتها التاريخية للأرض، لأنها في النهاية تحتاج إلى عدو يمنحها اعترافًا جديدًا بانتصارها وأحقيتها.

 لتصلك أبرز المقالات والتقارير اشترك/ي بنشرة حبر البريدية

Our Newsletter القائمة البريدية